* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

vendredi 24 mars 2017

التفسير المختصر

Width: /
Height: /
التفسير المختصر - سورة الفجر (89) - الدرس (2-2) : تفسير الآيات 15-17، الإبتلاء2.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1998-06-21

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين. أيها الإخوة الكرام، في سورة الفجْر قوله تعالى الآية الخامسة عشرة: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه...أهانني " الإنسان يتوَهَّم أنّه إذا كان غَنِيًّا فقد كرَّمه الله، وأنَّه إن كان فقيرًا فقد أهانه الله، فالله تعالى يردُّ على هذا الوَهْم ؛ كَلاَّ وهي أداة ردْعٍ ونفْيٍ، ليْسَت نفْيًا فقط، فلو قال لك أحدهم: هل أنت سارق ؟ تقول له: كلاَّ، ترْدَعُهُ على هذه التُّهْمة أما لو سألك: هل أنت جائع ؟ تقول له: لا، فالجوع ليس تُهْمَة، فَكَلاَّ تُضيف إلى النَّفْي الرَّدْع، أي يا عبادي ليس عطائي إكْرامًا، ولا مَنْعي حِرْمانًا، عطائي ابتِلاء، وحِرْماني دواء ؛ وهذا مع التَّفصيل إنسان آتاه الله المال ؛ هل يُعَدُّ المال نِعْمَةً ؟ لا ! هل يُعَدُّ نِقْمَةً ؟ لا ! ليس نِعْمَةً وليس نقْمَة، إنَّما المال ابتِلاء، فهو يكون نِعْمة إذا أُنْفقَ في طاعة الله، ويكون نقْمَةً إذا أُنْفِقَ في معْصِيَة الله، فهُوَ مَوْقوف على كَيْفِيَّة اسْتِخْدامِه ؛ ليس نِعْمَةً وليس نقْمَة وليس عطاءً إنَّما ابْتِلاء، وقِسْ على المال كلّ حُظوظ الحياة، فالذَّكاء هل هو نِعْمَة أم نِقْمَة ؟ هو مَوْقوف على نَوْع اسْتِعْمال الذَّكاء، فلو اسْتَعْمَلْتَ الذَّكاء في أخذ أموال الناس والإيقاء بينهم، وفي قهْرِهِم فَهُوَ ذكاء، ولو اسْتَخْدَمْتَ الذَّكاء في نَشْر الحق، وعَرْضِهِ عرْضًا رائِعًا، وفي تأليف القلوب وحل مُشْكِلاتِهم ؛ الدُّنْيَوِيَّة والأُخْرَوِيَّة فهذا الذَّكاء نِعْمة كبيرة وُظِّف في الحق. طيِّب الوَسامَة ؛ واحِد وسيم، إذا الوسامَة جعلها في الحق بأن دعا إلى الله وشَكْلُهُ وسيم وأنيق، فالناس تُحِبُّ الشَّكْل الوَسيم، أما إن اسْتَخْدَمَ وسامَتَهُ لإغْواء الفتيات فقد جعل هذا الحظّ نِقْمَة ومَعْصِيَةً ؛ فما مِن حظٍّ مِن حُظوظ الدنيا إلا ويُوَظَّفُ في الخير أو الشرّ. دُعينَا مَرَّةً لافْتِتاح مسْجد في الصَّبورة ؛ مَسْجِدٌ رائِع ضِمْن حديقة، ويحوي كلّ المرافق الرائِعَة، والذي بنى المَسْجِد اسْتَقْبلَنا واحِدًا واحِدًا ثمَّ دعانا إلى الغذاء، ثُمَّ ألقيت الكلمات مِن قِبَل عدَدٍ من العلماء وحينما ودَّعَنا كان باشًّا ! رَكِبْتُ مَرْكَبة مُتَّجِهًا إلى دمَشْق فإذا على الطَّرف الآخر مَلْهى ؛ وما مِن موبِقَةٍ إلا وفي هذا المَلْهى، فهذا المَسْجد احْتاج إلى أموال، وهذا الملْهى احْتاج إلى أموال، فالمال واحِد ولكن من المال ما أُنفِق لِيَكون مسْجِدًا، ومنه ما أُنْفق لِيَكون ملْهًى. واحِدٌ آتاه الله تعالى صوْتًا حَسَنًا، قرأ القرآن ؛ مات ولكن صَوْتُه يصدح به إلى يوم القيامة، وهذا مُغَنِّي مات فأُغْنِيَّاتُه تصْدح إلى يوم القيامة، وكذا الخط الحسَن، والمال والعقل والحسَب والنَّسب والأولاد فكلّ هذه ليْسَت نِعَمًا ولا نِقَمًا، إنَّما هي ابْتِلاء ! يا عبادي ليس عطائي إكْرامًا، ولا مَنْعي حِرْمانًا، عطائي ابتِلاء، وحِرْماني دواء ؛ قال تعالى: فأما الإنسان إذا...فيقول " هو الذي يقول هذا الكلام الواهِم والذي يحلم به، فأكثر الناس الآن إذا آتاه الله المال، ويقولون: إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! لا يدَعُ ملْهى، ولا مكانًا مُنْحَطًّا إلا وزارهُ ثمَّ تقول: إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! إذًا الله تعالى لا يحبّ عبده ! مِن مكَّة إلى المدينة إلى الطائف ! ما رأى شيئًا ؛ لا هذه المُدُن الجميلة، ولا هذه الملاهي الضَّخْمَة، إنَّما بِلاد قاحِلة وسوداء، وصحْراء حارَّة فَمِن أين هذه المقولات ؟ إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! قال تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت..." حقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة العمل الصالح، فهذه نُقْطة دقيقة جدًا ؛ حُظوظ الدنيا مِن مال ونَسَب وحسب وجمال وذكاء واخْتِصاصات، وهذه الشهادات العالِيَة قد يسْتخدِمُها لابتزاز أموال الناس ؛ لأنّ الناس يُصَدِّقونه، فلو قال الطبيب للمريض لا بدّ لك مِن تخطيط، فهل يستطيع المريض أن يُناقِشَهُ ؟! وقد يقول لك: لا بدّ لك مِن ثمانِيَة تحاليل ! أما إن وظَّف الإنسان اخْتِصاصه في خِدْمة المسلمين أصبحَ نِعْمة، فَيُمكِن لك أن تَحُلّ مليون مشكلة وأنت في المنصب، وممكن بالمنصب نفسه تكسب مليون مشكلة كل يوم ! ويكون منْصِبك هاوٍ بك إلى أسفل جهنَّم، إما أن تُحِق الحق لِوَجه الله، وإما أن تُحِقَّ الباطل مُقبل مبْلغ تأخذه، وحينها يصبح الحق باطلاً، والباطل حقًّا، لذلك قالوا بآخر الزمان قاضيان إلى النار وقاضي إلى الجنَّة، وفيها تعديل وهو قاضيان إلى النار وقاضٍ إلى جهنَّم ! الحُكْم لِمَن يدْفَع، وهذه مُشْكِلَة، لذلك أيها الإخوة، الحُظوظ تُوَظَّف في الحق وتُوَظَّف في الباطل. أحد إخواننا العلماء كان بِبَلَدٍ إسْلامي، فقالوا له أحد كبار الأغنِياء قدَّم لِطَلبة العلم الشرعي بسيط ؛ كم ؟ ثلاثمائة مليون دولار ! فقال: والله أُحبّ أن أرى هذا الإنسان، فأقاموا جلسة للفطور، فجاء هذا العالم الدِّمَشقي حتَّى يلْتقي مع هذا الغنِيّ المُحْسِن، فما جاء هذا الغنِيّ ! انْتَظَر ساعة وأكثر، فسأل عنه أين هو ؟ فقالوا له: جاء وله الآن وقد بقي طويلاً ينتظر ولكن مِن شِدَّة أنَّه مُتواضع لا يظهر عليه أنَّهُ دفه مبْلَغًا كهذا ! أما أحدهم يدْفع خمسة وعشرون ألفًا فتراه يحبّ أن يجلس على الرُّخام ! أنا والله أغْبط العلماء، فقد يصِلوا إلى أعلى مرتبة بالجنَّة، ويُنافِسوا أكبر عالم في الإسلام، وهكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا حسد إلا في اثنتين:..." فالغنيّ المؤمن إذا وظَّف ماله في الحق وصل إلى رتبة كبيرة ؛ فَكَم كم أسرة تُعاني البؤس وشقاء المعيشة ؟ وكم من إنسان يحْتاج إلى عَمَلِيَّة جراحِيَّة ؟ وكم من شابٍّ طرق الزواج مُغْلَقَة أمامه، فمجال العمل الصالح بالمال لا يُعَدُّ ولا يُحْصى، والأغنياء المؤمنون يمكنهم أن يصلوا إلى أعلى مرتبة في الجنَّة بِمَالهِم فقط ! كما أنَّ العلماء يصلون بِعِلْمِهم وإنْفاقِه فالمال إذًا قُوَّة تُوَظَّف في الحق فتُؤتي أُكلها يانِعَةً. شيخ الأزهر السابق جاد الحق، فَمَشى بِجَنازته ستَّة ملايين إنسان، ساكن بِبَيْت مائة متر طابق رابع، ومعه الْتِهاب مفاصِل ! وتحت يدِهِ مئات الملايين للأزْهر، ولا توجد قريَة بِمِصر إلا أنشأ فيها معهد شرعي تابِع للأزهر، وتُوُفِّيَ وهو فقير، فالعِبْرة أن يموت الإنسان على حقّ، فالعالم إذا توَفَّى يُحْدِث هزَّة للعالم كلِّه له، ترك تفسير قرآن ودعوة إلى الله وصَحْوة إسلامِيَّة، وهناك مَن ترَكَ ملْهى فهو له صَدَقَة جارِيَّة إلى يوم القيامة ! فالقَصْد مِن كلامي ؛ أنّ الحُظوظ إما أن تُوَظَّف في الخير، وإمَّا في الشرّ، يقولون لك في بعض البلاد المُجاوِرَة كازينو ؛ القاعة الواحد مُكَلِّفَةً لثلاثين مليون دولار ‍‍!! قاعة قِمَار، وحفلة بِفُنْدق خمسة نجوم كلَّفَتْ سِتِّين مليون ؛ حفلة عرس ! لو تأمَّن بيتًا بِمئة ألف في أطراف دمشق، وخمسين ألف لوازم الزوج، فكم مِن شابٍّ سيَتَزَوَّج ؟! لذلك الكفار إذا أنفقوا الأموال أنفقُوها إسرافًا وتبْذيرًا، وإن منعوها منعوها بُخْلاً وتقْتيرًا. أحد إخواننا أراد أن ينشأ جامِعًا في نَهْر عيشَة، فوَجَد قطْعَةً مساحتها ثلاثمائة متر لإنسانٍ مُدَرِّس فقير معاشُه ثلاثة آلاف ليرة فقط، وهو أرخَص معاش في الدَّوْلة، فهذا الغنِيّ أراد أن يشتري هذه القطعة وثمنها ثلاثة ملايين ونصف ! فباعهُ هذا الفقير القطعة بِمليونين، وقال له: مليون ونصف هذه عند التنازل للأوقاف، فهذا الغنيّ لا يفْهم شيئًا من هذا ! فقال له ما الأوقاف ؟ قال الغنيّ: هذه نريد أن نُقيمَها جامِعًا فقال الفقير: جامِع ! فقَطَّع الشيك وقال له: أنا أوْلى أنْ أُقَدِّمَها لله منك ! يقول هذا الغنيّ: والله ما احْتَقَرْتُ نفْسي وما صَغُرَت أمام إنسان كانْذِلالها أمام هذا الفقير الذي راتبُهُ زهيد، ما هي الدنيا ؟ عمل صالِح فابْذُل علْمك ومالك ووقْتَك وخِبْرتَكَ حتّى تُلاقي الله وهو راضٍ عنك قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه...كلا "ليس عطائي إكرامًا ولا منْعي حِرْمانًا ، عطائي ابْتِلاء، وحِرْماني دواء، أنت مُبْتَلى فيما أُعطيتَ وفيما مُنِعْتَ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام: اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عونا لي فيما تحب، وما زللت عنِّي ما أحبّ فاجْعَلْهُ لي فراغًا فيما تحبّ. والحمد لله رب العالمين

التفسير المختصر - سورة العلق (96) السورة بكاملها لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1998-07-19 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين . سورة العلق : أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول الله عز وجل في سورة العلق : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ  عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ سورة العلق الآيات : 1-5 ] اقْرَأْ أول آية نزلت : أوَّل آية أُنْزِلَت في كتاب الله تعالى : اِقرأ ، فهذا الدِّين العَظيم دِينُ عِلْم ودينُ حقيقة ، ودين مَنْهج ودليل وتَعليم وعَقْل ، إلا أنَّ القِراءة مُطْلقة وواسِعَة جدًا ، ويجب أن تقرأ باسم ربِّك ، وما لم تَخْتَر مَوْضوعًا يَنْفَعُكَ في الدنيا والآخرة فهذه القِراءة لا تنْفَع ، وقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام ربَّهُ فقال : (( اللهمّ إنِّي أعوذ بك مِن عِلْمٍ لا ينفَع ، ومِن قلبٍ لا يَخْشَع ، ومِن عَيْنٍ لا تَدْمَع ، ومِن أُذُنٍ لا تَسْمَع )) وليس كُلّ عِلْمٍ نافِع ، فَهُناك عِلمٌ نافِع وغير نافِع ، وليس كلّ عِلمٍ مُسْعِد ، والعِلم الدِّيني هو وحْدهُ المُسْعِد في الدنيا والآخرة ، فقوله تعالى : ﴿ اقْرَأْ ﴾ فهِيَ قِراءة ليْسَت مُطلقَة ؛ بل قِراءَةً تنتهي بِها إلى ربِّك ، وتتعرَّفُ بها إلى ربِّك ، وتُعَظِّم فيها ربَّك ، وقِراءَةً هادِفَة . قال تعالى : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [ سورة العلق الآيات : 1-3 ] الإكرام الإلهي : أكْرَمَك بِنِعْمة الوُجود ، وأكْرَمَك بِنِعْمة الإيجاد والإمْداد ، والهُدى والرَّشاد ، ثمَّ قال تعالى : ﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ [ سورة العلق الآية : 4 ] قال تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ  عَلَّمَ الْقُرْآَنَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ  عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [ سورة الرحمن الآيات : 1-4 ] فالبيان إحْدى نعَم الله الكُبرى على الإنسان ؛ بالنُّطْق والسَّماع تنتقل المعارِف بين المُتعاصِرين ، ولكن بالقلم والكتابة والقراءة تنتقل المعارف بين الأجْيال ، وبين الأُمَم ، فلولا نِعْمة القَلَم لما انْتَفَعتْ أُمَّة بِأُمَّة ، ولا جيلٌ مِن جيل ، والدليل نأخذ أحد العلماء ؛ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ، كان يَحْضُر درسه عدد كبير جدًا فلما انتهى التواصل الشَّفَهي ومات انتهى عِلْمُهُ ، أما حينما ألَّف كتاب عِلْم الأحياء فَعِلْمُهُ مُسْتَمِر إلى يوم القيامة ، فبِالكتابة تنتقل المعارف من جيلٍ إلى جِيلٍ ، ومِن أُمَّة إلى أخرى . أيها الإخوة ؛ قال تعالى : ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ [ سورة العلق الآيات : 6-7 ] فالإنسان في ساعة الافْتِقار يقول : يا ربّ ، فإذا أغْناهُ الله وأتَمَّ عليه نِعْمة الصِّحة والمال ينسى الله عز وجل ، فالإنسان المؤمن يشْكر الله وهو في الرَّخاء ، ولكنَّ الشارِد يَذْكره وهو في الافْتِقار والشدَّة ، لذا : يستغني ، يتجاوَزُ حُدوده ، ويتجاوَز في تَصَوُّراتِهِ ، وفي سُلوكِهِ ؛ متى ؟‍ ﴿ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ أنْ رأى نفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا عن الله ، لذلك إما أن ترى نَفْسَك مُفْتَقِرًا إلى الله ، وإما أن يُريكَ الله افْتقارَك إليه ، إن رأَيْتَهُ وَحْدكَ فهذه نِعْمةٌ عُظْمى ، فالصَّحابة الكِرام رأَوْا افْتِقارهم إلى الله في بَدْر فَنَصَرَهُم الله ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ سورة آل عمران الآية : 123 ] لكنهم في حُنَيْن رَأَوْا كَثْرَتَهُم فَخَذَلَهُم الله ، قال تعالى : ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [ سورة التوبة الآية : 25 ] فأنت إن رأَيْتَ افْتِقارَك تَوَلاَّك الله ، وإن اعْتَدَدْتَ بِقُوَّتِك وعِلْمِك ومالِك ، واسَتَغْنَيْتَ عن الله ضِمْنًا خذَلَك الله ، لذا مع الاسْتِغْناء الخِذْلان ، ومع الافتِقار الإمْداد والرِّعايَة ، إذًا يُمكن أن نقول : أنت كلّ يوم في امْتِحانَيْن ؛ امْتِحان الافْتِقار ، وامْتِحان الاسْتِغْناء ، فبِافْتِقارِكَ يتولاَّك الله ، وباسْتِغْنائِكَ يَكِلُكَ الله إلى نفْسِكَ ، ومَن توكَّل على نفْسِهِ أَوْكَلَهُ الله إيَّاها ويُؤتَى الحَذِرُ مِن مَأْمَنِهِ ، ويُؤْتى صاحِب الاخْتِصاص من اخْتِصاصِهِ وصاحِب التَّفَوُّق من تَفَوُّقِهِ ، وصاحِبُ المال مِن مالِهِ ، لذا كُلَّما اسْتَغْنَيْتَ عن الله عز وجل أُخِذْتَ من اخْتِصاصِك ، ومِن مَأمَنِك وتَفَوُّقِك ، قال تعالى : ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى  إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ [ سورة العلق الآيات : 6-8 ] الموازنة الإلهية : الآن وازِنْ بين شَخْصَيْن ؛ قال تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى  عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾ [ سورة العلق الآيات : 9-10 ] رَجُلٌ يَنْهى الناس عن الصلاة ؛ حديثُهُ كاذِب ومُنْحَرِف ولئيم وأناني وكاذِب ومُنافق ودجَّال ، ما دام يقطع الناس عن الصلاة فَهُوَ مع شَهوَتِهِ ومُنْقَطِع عن الله ، قال تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَوَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِفَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَالَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَالَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَوَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [ سورة الماعون ] قال تعالى : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ سورة القصص الآية : 5 ] أين الجواب ؟ اُنْظر إلى أفعالِهِ وشَخْصِيَّتِهِ ووُعودِهِ وكلامِهِ ودناءَتِهِ وخِيانَتِهِ ، واحْتِيالِهِ واعْوِجاجِهِ فأخْلاقُهُ المُنْحَرِفَة أقْوى دليل على انْحِرافِهِ ، وهو أصْغَر مِن أن يُناقَش ألا يَكفي أنَّهُ كذَّاب ؟ ومُحْتال ؟ وأناني ؟ وقَذِر ؟ ويَخُون ؟ أرأيْتَ إن كان على الهُدى ؛ اُنْظر إلى صِدْقِهِ وأمانتِهِ وعِفَّتِهِ واستِقامَتِهِ ومُروءَتِهِ وتواضُعِهِ ورَحْمَتِهِ ، سُلوك المؤمن أكبَر دليل على إيمانِهِ ، وسُلوك المُنْحَرِف أكبر دليل على إيمانِهِ ، وسُلوك المُنْحَرِف أكبر دليل على انْحِرافِهِ ، فهذه الآية قَوِيَّة جدًا ! قال تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى  عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾ [ سورة العلق الآيات : 9-10 ] انْتَهَتْ الآية ! أرأيْتَ إلى أخْلاقِهِ وطِباعِهِ وعلاقاتِهِ وقَسْوِتِهِ وعلاقتِهِ بِزَوْجَتِهِ وأولادهِ ، قال تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى  أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ [ سورة العلق الآيات : 11-12 ] قال تعالى : ﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ  نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [ سورة العلق الآيات : 15-16 ] مِن أشدّ أنواع التَّنكيل أن تَمْسِكَ الإنسان بِمُقَدِّمة رأسِهِ وتضرب الأرض بِرَأسِهِ ! تضْرب به فناصِيَةُ الإنسان مقدِّمة رأسِه ، قال تعالى : ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ ماذا يوجَد في ذِهْنِهِ ؟ خُبْث واخْتِيال ، وشَطط وتَفْكير بالمعاصي ، قال تعالى : ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ [ سورة العلق الآية : 17 ] يأتي الإنسان يوم القِيامة وَحْده فَرْدًا ، فَهُوَ في الدنيا له جماعَة ، وأتْباع وأعْوان ، فالإنسان أحْيانًا قد يَحْتاج إلى العِقاب فيأتي مائة تلفون يتوسَّطون لِهذا الشَّخص ! معنى ذلك أنَّ له أتْباع ، وشبَكَة مُواصلات ، وهذه الشَّبَكة تنتهي يوم القيامة ، قال تعالى : ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ [ سورة العلق الآية : 17 ] ليس معه أحد ، تقول له : يا بني جَعَلْتُ لك صَدْري سِقاءً وبَطْني وِعاءً وحجري وِطاءً فهل مِن حسَنَةٍ يعود عليَّ خبرها اليوم ؟ فيقول : يا أُمِّي ليتني أسْتطيعُ ذلك إنَّما أشْكو مِمَّا أنت تَشْكين ، قال تعالى : ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [ سورة المؤمنون الآية : 101 ] وقال تعالى : ﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ [ سورة الكهف الآية : 48 ] ثمَّ قال تعالى : ﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ  كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [ سورة العلق الآيات : 18-19 ] فإذا قال لك إنسانٌ : لا تُصَلِّي ! فلا تُطِعْهُ واسْجُد واقْتَرِب . سألني البارِحَة إنسان يعْمل في مُؤَسَّسة وصاحِبُها مؤمن ، يَمْنَعُهُ مِن صلاة الجُمُعة ، وهو تحت طائِلَة الطَّرْد من العمل !! فقُلْتُ له : لِيَطْرُدْكَ من العَمَل والله هو الغَنِيّ ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق . قالتْ له : إما أن تكْفر وإما أن أدَعَ الطَّعام حتى أموت ؛ سـيِّدُنا سَعْد ، فقال لها : يا أُمِّي لو كانت لك مائة نفْس فَخَرَجَت واحِدة تلْوَ الأخرى لما كفَرْتُ مُحَمَّد ، فَكُلي إن شئتِ أو لا تأكُلي !! ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق . والي البصرة قال : إنَّ يزيد يأمرني أن أُنَفِّذ كذا وإن نفَّذْت الأمر عصَيْتُ الله . فقال الحسن : إنَّ الله يَمْنَعُكَ من يزيد ولكنَّ يزيد لا يَمْنَعُكَ من الله ! يأتي مرض خبيث لا يُمْكِن أن يُخَلِّصَهُ أحَد ، أقْرَبُ الناس يبتعِدُ منك ! يأتي عِقاب أليم ، أما إن كنتَ مع الله يُخَلِّصُك من كلّ أحَد ، ويمنع كلّ أحدٍ منك ، أما إذا كنت مع الجبابرة فلا أحد يمنعُكَ منهم ، ولا أحد يمنَعُكَ من الجبار الأعلى . إنَّ الله يَمْنَعُكَ من يزيد ولكنَّ يزيد لا يَمْنَعُكَ من الله ! ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق ، قال تعالى : ﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ والحمد لله رب العالمين

6746 التفسير المختصر - سورة السجدة (32) - الدرس (6-6) : تفسير الآيات 28-30 لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1995-10-20 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين. أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة والعشرون، والتي بعدها مِن سورة السَّجدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾ [ سورة السجدة ] هاتان الآيتان تُشيران إلى معنى خطير جدًا ؛ الفَتْحُ هو النَّصْر بِمُطْلق معانيه، فَيَوْمُ القيامة هو يوم الفَتْح، وفيه تنْكشف الحقائق، ويظْهر الحق أبلج، وسيختفي الباطل ويسقط، وإذا نصَر الله دينه في الحياة الدنيا فهذا يوم الفتْح. الفتْحُ هو النّصر، فهم يقولون: متى هذا الفتْح اسْتِهزاءً ‍! الجو بدقيق جدًا، قال تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)﴾ [ سورة السَّجدة ] لو أنَّ أستاذًا قال لِطُلابِهِ غدًا مُذاكرة، وسوف يكون لها تأثير كبير في نجاحِكُم هذا العام، فأحدُ الطلاب ما عبأ بِهذا التَّنبيه، ولم يدْرس، ففي اليوم التالي إذا دَخَل المُدَرِّس، وقال افْتَحوا الأوراق واكْتُبوا الأسئِلة فهذا الذي فتَحَ الأوراق ولم يعْبأ به، ألم يوقِن الآن يقينًا قَطْعِيًا أنَّ الآن يوجد مُذاكرة ؟! وهل ينفَعُهُ هذا اليقين ؟ ماذا نسْتفيد من هاتين الآيتين؟! نسْتفيد الحقيقة التالِيَة وهو أنَّ الإنسان في موضوعات كثيرة له خِيار قَبول ورفْض إلا في موضوع الدِّين فَخِيارُهُ خِيار وَقْتٍ فقط ! فإمَّا أن يؤْمِنُ الآن في الحياة، والقلبُ ينبِض، ويتمتَّعُ بِصِحَّتِهِ، أو لا بدّ مِن أن يؤْمِن حينما يأتيهِ ملكُ الموت، وسوف يؤْمِن، ولكنَّ هذا الإيمان الذي سيأتي مُتأخِّرًا لا قيمة له إطْلاقًا. يُمْكِن أن نقول الفِكْرة الأساسيَّة في هاتين الآيتين ؛ خِيارُكَ مع الإيمان هو خِيار وَقْت، وليس خِيار قَبول أو رفْض، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾ [ سورة السجدة ] هم يقولون هذا اسْتِهزاءً ! ولكنَّ الحقيقة إن لم تؤْمِنوا الآن بِيَوم القيامة وتسْتَعِدُّوا له، وتسْتقيموا على أمْر الله، حينما يأتي اليوم الآخر سوف تُؤْمنون به إيمانًا يقينِيًّا مِن أعلى درجة ولكنَّ هذا الإيمان لا ينْفعُك قال تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)﴾ [ سورة السَّجدة ] فما قَوْلُكَ أيُّها الأخ الكريم أنَّ أكْفَرَ كُفَّار الأرض مِن دون اسْتثناء والذي قال: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [سورة القصص] والذي ذبَّحَ بني إسْرائيل، هذا الطاغِيَة فِرْعَون حينما أدْرَكَهُ الغرق قال، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ(90)﴾ [ سورة يونس ] فكان الجواب من الله عز وجل، قال تعالى ": ﴿أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(91)﴾ (سورة يونس ) أرجو الله تعالى أن يُوَفِّقني لإيضاح هذه الفِكْرة، أنت سوف تُؤمِن شئْتَ أم أبَيْت ! ولكن إن لم تؤمن الآن وأنت صحيح الجسم وقوي ومُدرِك، وفي بَحْبوحة، فإيمانُكَ بعد فوات الأوان لا قيمة له، ولن يُجْدِيَكَ إطْلاقًا، فأنت إما أن تؤمن الآن، وإما لا قيمة لإيمانك بعد فوات الأوان، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾ [ سورة السجدة ] تروي كُتُب الأدب أنَّ بِرْكة ماءٍ فيها سمكات ثلاث ؛ كيِّسَة وأكْيسُ منها وعاجِزة، قيل: فاتَّفقَ مرَّة في ذاك المكان صيَّادان، فأبْصَرا الغدير، وما فيه مِن السَّمَك، فتَوَاعَدا أن يرْجِعا ومعهما شِباكُهما لِيَصيدَا ما فيه مِن السَّمَك - هذه قِصَّة رمْزِيَّة رواها ابن المُقَفَّع في كتابه كليلة ودِمنة- قال: فسَمِعَت السَّمكات قولهما، أما أكْيسُهُنّ فإنَّها ارْتابَتْ وتخوَّفتْ وقالتْ: العاقل يَحْتاط للأمور قبل وُقوعِها، ولم تعْرُج على شيءٍ حتَّى خرجَت من المكان الذي يدْخل منه الماء من النَّهر إلى الغدير فَنَجَتْ قال: وأما الكيِّسة أو الأقلّ عقْلاً فَمَكثَتْ في مكانِها حتَّى عاد الصَّيَدان فذَهَبَت لِتَخرج من حيث خرَجَت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدّ، فقالتْ: فرَّطت وهذه عاقبة التَّفريط ! إلا أنَّها قالتْ: لكنَّ العاقِلَ لا يقْنطُ مِن منافِعِ الرَّأي، ثمَّ إنَّها تماوَتَتْ فطفَت على وَجْه الماء فأخذَها الصَّياد بيَدِهِ ووضَعَها على الأرض بين النَّهر والغدير، فوثَبَتْ في النَّهر فنَجَتْ ! قال: وأما العاجِزَة فلم تزلْ في إقبال وإدْبارٍ حتَّى صِيدَتْ وهذا المثَل ينطبق على بني البشَر فهناك العاقل جدًا، قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )) [ رواه الترمذي ] فالعاقل دان نفْسه، بِمَعنى ضبطَ، ضَبَطَ دَخْله وتحرَّى الحلال وضبَطَ بيْتَهُ وزوْجته، وبناتِه وضبط لِسانه، وعينه وسمْعه، وضبط ما يأكله أَحَلال أم حرام ؟ وضبط ما يخرج من الكلام ! فالمؤمن كيِّس. أيها الإخوة الكرام، كلّ إنسانٍ يعيش لحْظته دون أن يُفَكِّر في المستقبل هو إنسانٌ غَبِيّ ! لأنَّ هذه اللَّحْظة الراهنة لا تدوم، فالدُّوَل العُظْمى تُخَطِّط لِسَنة ألفين وألفين وعشرة، والدُّوَل أقل تطوُّر تعيش بِرُدود الفِعْل، والأكْثر تَخَلُّف تتحدَّث عن ماضيها، فالذَّكاء أن تُخَطِّط للمستقبل، فالإنسان إذا أغْفل موضوع الموت من بين حِساباته اليَوْمِيَّة وأغفَل دُخول القبر، وأغْفل أنَّهُ سَيُسْأل عن كلّ ما يفعله، سوف يُصْعق عند الموت، لذلك من حاسب نفسه في الدنيا حِسابًا عسيرًا كان حِسابُهُ يوم القيامة يسيرًا، ومن حاسب نفسه في الدنيا حِسابًا يسيرًا كان حِسابُهُ يوم القيامة عسيرًا ! فالمعنى الذي بين هاتين الآيتين أنَّكَ لا بدّ أن تؤْمن بأعلى أنواع الإيمان، ولكنَّ هذا الإيمان الذي يأتي مُتأخِّرًا وعن النِّزاع، وفي فِراش الموت ؛ فهذا الإيمان لا ينْفعُكَ إطْلاقًا وكأنَّه لم يكُن، فالعِبْرة أن تؤمن في الوقت المناسب، وخِيارك مع الإيمان خِيار وَقت ؛ احْفظوا هذه الجملة. وكما تعلمون أنَّ الإنسان بين أيَّام ثلاثة، قالوا: ما مضى فقد فات والمُؤَمَّلُ غَيب، ولك الساعة التي أنت فيها، وكثير مِمَّن ينامون ولا يسْتيقظون، وخرج ولم يرْجع، هذا شيء بديهي، ومَن أعدَّ غدًا مِن أجلهِ فقد أساء صُحْبة الموت، فما دُمْتَ لا تمْلِكُ نِهاية الحياة، فلأسْتَغِلّ هذه اللَّحظة التي أنا فيها، وقد ورد بالحِكم أنْ هلك المُسوِّفون ! المُسَوِّف هو الذي يُؤَجِّل التَّوبة والصلاة والاسْتِغفار والاسْتِقامة. قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾ [ سورة السجدة ] المستقبل في صالح المؤمن، وليس في صالح الكافر، والباطل يجول جَوْلةً ثمَّ يضْمَحِلّ أما المؤمن ينتظِر من المستقبل كلّ المستقبل، قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾ [ سورة التوبة ] فَمُضِيّ الزَّمن في صالح المؤمن لأنَّه يزيدُه إيمانًا وتألُّقًا، وعملاً صالِحًا ولكنَّ الزَّمَن مع الكافر يَحوي مُفاجآت، فهو ينتظر عِقاب الله تعالى وتَدْمير مالهِ، وينتظر قصْم العلاقات الزَّوْجِيَّة، فالزَّمَن لا يلِدُ إلا المصائب للكفار، ولا يلِد إلا الإكرام والعطاء للمؤمنين، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾ [ سورة التوبة ] سرٌّ، تقول: هذه الآلة لي ؛ هذه لامُ المُلْك، ولا يُمَلَّك إلا شيء ثمين، أما على فَهِي تُفيد المسؤوليَّة، قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)﴾ (سورة البقرة ) على تُفيد القهْر، أما اللام فَهِي تُفيد التَّملّك، فالآية جاءت: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾ [ سورة التوبة ] فَفَرْقٌ كبير بين كتَبَ لنا وبين كتَبَ علينا ! قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(15)﴾ [ سورة الجاثية ] فعلى تُفيد القهْر، أما اللام فَهِي تُفيد التَّملّك. أيها الإخوة، نَخْلص من هاتين الآيتين إلى أنّ خِيار الإنسان مع الإيمان خِيار وَقت، وليس خِيار قَبول ورفْض، وطوبى لِمَن عرف الله في الوقت المناسب، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا )) [رواه الترمذي] والحمد لله رب العالمين

التفسير المختصر - سورة الجاثية (45) - الدرس (1-3) : تفسير الآية 21 لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1996-02-04 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين. أيُّها الإخوة الكرام، الآية الواحدة والعشرون من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] أوَّلاً إذا توهَّم الإنسان لِثانِيَة واحِدَة أنَّه يمْكنُ أن يُعامِلَ المحْسِنُ كالمُسيء والمستقيم كالمنحرف، والذي له دَخل حلال مع الذي له دخْلٌ حرام والكاذب مع الصادِق ؛ إذا اسْتويا هؤلاء فهذا الاسْتِواء يتناقض مع وُجود الله، ويتناقض مع كمالِهِ، ويتناقضُ مع عدالَتِهِ، وأقْسِمُ بالله العظيم لو لم يكن في كاتب الله إلا هذه الآية لَكَفتنا جميعًا. ربُّنا عز جل يُطَمئِنُنَا ؛ أنَّه لا يمْكن أن يُعامَلَ المؤمن كالكافر، أو الكافر كالمؤمن، لا يُعامَل المستقيم كالمنحرِف، والصادق كالكاذب والمخلص كالخائن، والرحيم كالقاسي، والذي يكْسِبُ المال الحلال مع الذي يكْسِبُ المال الحرام ؛ هذه آية ولكن يقول قد يقول أحدكم: المستقيم له أجر، ولعلَّ الأجْر في الآخرة، وليس في الدنيا ! نحن نقول له الآية تقول: ﴿مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] محياهم في الدنيا، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾ [سورة النحل] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾ (سورة طه) معنى ذلك أنَّ المؤمن حياته في بيْتِهِ، وحياته في عمله وصِحَّته وأولاده وأهْلُهُ، وسُمْعتهُ ومكانته ؛ هذه مُتَمَيِّزَة، لذا ورد انَّه إذا رُئِيَ أولياء أُمَّتي ذُكِر الله بهم ! حينما قال الله عز وجل عن بعض الطُّغاة: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)﴾ [سورة الدخان] هذا الكلام في علم أصول الفقه قاعدة اسْمُها العِلم المُخالف ؛ هؤلاء الذين أساءوا حينما ماتوا ما بكَت عليهم السماوات والأرض، فالذين أحْسنوا إذا ماتوا ما الذي يكون ؟ تبْكي عليهم السماوات والأرض، والأرض تتبارَك بالمؤمن. أيُّها الإخوة، أن يستوي المؤمن وغير المؤمن ؛ هذا غير ممكن، ويتناقض مع كمال الله، إنسان مُسيء، ويغُشُّ الناس، ويحْتال عليهم ويعتدي عليهم، ويبني حياته على فقرهم، أَتُريد من الله عز وجل أن يُعامل المؤمن كغير المؤمن ؟! مؤمن مستقيم، ومؤمن يخاف الله، وفي قلبه خَشية وخوف، ويبْحث عن الدِّرهم الحلال، ويُنفقُهُ في الوجه الصحيح، فهذا خلاف من يسلب أموال الناس، لذلك الآية الكريمة: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾ [سورة السجدة] وقال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)﴾ [سورة القلم] وقال تعالى ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾ [سورة القصص] وقال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾ [سورة العلق] وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26)يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)﴾ [سورة الحاقة] وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)﴾ [سورة آل عمران] فهذه مسافة كبيرة جدًّا بين المؤمن وغير المؤمن، لذلك يتوهَّم الإنسان ويقول: شيءٌ يُحَيِّر ! هذه الآية تدفع عنك الحَيرة، لا يمكن أن يُعامَل المحْسِن كالمُسيء، إنسانٌ دَخلُهُ حلال، وبِمالٍ قليل ينتفِعُ به انتِفاعًا كبيرًا، وبِمالٍ كثير يُدمَّر المال ولا يُنتفَعُ به، وإنسانٌ اختار زوْجةً صالحة مؤمنةً متديِّنة يسْعَدُ بها وتَسْعَدُ به، أما من تزوَّجها لِجَمالها فقط أذَلَّهُ الله تعالى، ومن تزوَّجها لِمالها أفْقرَهُ الله، ومن تزوَّجها لِحَسَبِها زادَهُ الله تعالى دناءة. وإنسان بنى دَخلَهُ على إفساد أخلاق الآخرين، صاحب دار سينما جمَّع ثروةً طائلة قبل خمسة وعشرين عامًا، وجمَّع خمسة ملايين، وأُصيب بِمَرض خبيث، وله ابن أخت هو تلميذي، فقال لي: رأيْتُهُ يبكي، فقال له: ما لك تبكي ؟‍‍‍! فقال له: جَمَعْتُ هذا المال لأتمتَّع به في خريف عمري، وهذا المرض قد عاجلني، فهذا جَمَع المال على حِساب أخلاق الشَّباب، وعلى حساب دينهم، وتوجُّههم إلى الله عز وجل، فالمال الحلال له عند الله حِساب، والحرام له حِساب، والمُحْسِن له حِساب والمسيء له حِساب، والعابِد له حِساب وغير العابد له حِساب، والأمين له حِساب، والخائن له حِساب، أما حينما تتوهَّم أنَّه قد يسْتوي الخائِن والأمين، والصادق والكاذب، والأب الكامل والأب المُتَفَلِّت، والأمّ الحنون، والأم المتفلِّتة، والمعلِّم الذي يُلْقي درْسهُ بإخلاص والمعلِّم الذي لا يلقي درسه بإخلاص، والطبيب الذي ينْصحُ المريض، والطبيب الذي لا ينصحُ المريض ويبْتزّ ماله، والمحامي الذي يعلمُ أنَّ هذه القضِيَّة سلفا فيأخذُها ويُماطِل الموكِّل إلى ما شاء الله، والمحامي الذي ينْصح الموكِّل. الله عز وجل عنده لِكُلّ إنسانٍ درجة، فإذا كان على وَجه الأرض خمسة آلاف مليون إنسان، فهذا يعني أنَّه يوجد خمسة آلاف مليون درجة، والدليل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19)﴾ [سورة الأحقاف] فأنت لك عند الله تعالى درجة بمَعرفتِكَ واسْتقِامَتِكَ، وبإخلاصك، بِأُبوَّتِكَ الكاملة، وبُنُوَّتِكَ الكاملة، والإنسان العاق غير الإنسان البارّ، فلذلك أيُّها الإخوة هناك معايير دقيقة، قال تعالى: فو ربِّك لنسألنَّهم أجمعين عمَّا كانوا يعملون أنت إذا أنفذت نملة وأنت تتوضَّأ فهذه لها عند الله ثمن، وما أكْرمَ شابٌّ شَيْخًا لِكِبَر سِنِّه إلا سخَّر الله له مَن يُكْرِمهُ عند سِنِّه، وبُرُّوا آباءَكم تبُرُّكم أولادكم. أيُّها الإخوة الكرام، عليكم أن لا تتوهَّموا ولو ثانِيَة أنَّ المُحْسِن يُعامَل كالمُسيء، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] لِمَ لم يقل أم حَسِبَ الذين كفروا واجْترحوا السيِّئات ؟ طبعًا الحسَنَات تحتاج إلى إيمان، أما السيِّئات فلا تحتاج إلى إيمان لأنَّ غير المؤمن سيَكذب ويسرق ويزني ويحتال على الناس، ويظنُّ نفسهُ ذَكِيّ وهو أحمقهم، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] اجْتِراحُ السيِّئات يعني أنَّك لسْتَ مؤمنًا، والإمام الغزالي يقول: يا نفسُ لو أنَّ طبيبًا منعَكِي مِن أكْلةٍ تُحِبِّينها، فلا شكَّ أنَّك تمْتَنِعين، أفيَكون الطبيب أصدَقَ عندك من الله ؟ فما أجهلكي، فكلُّ إنسانٍ يرتَكِب معْصِيَة فهذا مدموغ، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] ثمّ قال تعالى: ﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] تدخل إلى بيت ثمنهُ ثلاثين مليون فإذا بالدَّاخِل جحيم لا يُطاق، ونَكَد، وبغْضاء، وخُصومة، والأب في جهة والزّوجة في جهة أخرى، وبالمقابل تجد بيتًا متواضِع وفي الجبل والدّخل محدود جدًّا، وأهله في نعيم مطلق، فعند الله كلّ شيءٍ بِحِسابه قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ [سورة الجاثية] فالذي يموت بالمسجد، والذي يموت بِلَيلة القَدر، ويموت وهو يتلو القرآن يموت بين أهلِهِ مُعَزَّزًا مُكَرَّما، وآخر تجد قد مات بالمرحاض ! وقد يموت ولا يدري به أحد، ويموت وهو يركِّب الدّش ! فالإنسان يأتيه ملك الموت بِطَريقةٍ يُلَخِّص حياته كلَّها، ومرَّةً كنتُ بِتَعْزِيَة وأمامي شيخ عالم، وبعدها خرج من التَّعزِيَة، فما مشَى رجل لا يعرفه ولا يعرف اسمه، وبيت هذا الرَّجل إلى جانب التَّعزِيَة، فأراد أن ينقلَهُ إلى بيتِهِ، فهذا الشيَّخ أوصله هذا الأخ إلى بيتِهِ، فصَعِدَ الطوابق الأربعة، ودخل بيتهُ، ودخل إلى غرفتِهِ، ونزع العمامة، واسْتلقى في الفراش، وسُلِّم أمرهُ إلى رب الأرض والسماء ! فهذا لو أراد أن يأخذ التَّاكسي لما وصل إلى بيتِهِ !! فالله سخَّر له إنسان لِيُوصِلَهُ إلى بيتِهِ، ويموت على سريره. وبالمقابل كنتُ مارًّا بالحريقة فوَجَدتُ إنسانًا مُلقى ميِّتًا على الأرض، فرجعتُ من العَمَل بعد ثماني ساعات وهو على حاله الأولى ! فهذه الآية يجب أن تبقى في أذْهاننا وعقولنا، وكلّ شيء بِحِساب دقيق، فالمال فيه بركة، والزَّوجة الصالحة مُسْعِدَة، تَسْعَدُ وتُسْعِدُ، قال تعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)﴾ (سورة البقرة ) هذه الآية محْوَرِيَّة، وإحْدى دعائِم العقيدة وهو أنَّ الله بيَدِهِ كلّ شيء ويُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. والحمد لله رب العالمين

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire